محلل: ليبيا تعمل على العودة إلى سوق النفط بقوة

قال المحلل السياسي، أحمد يونس، إن إعلان خليفة عبدالصادق، وزير النفط والغاز الليبي في حكومة الوحدة الوطنية، إطلاق جولة جديدة من التراخيص للاستكشاف والإنتاج، تشمل 22 رقعة تمتد من حقول سرت الأسطورية إلى الأراضي البكر في برقة، هزّ أسواق الطاقة العالمية:
وقال «يونس»، في تصريحات صحفية، إنه «ما تلا ذلك فاق توقعات أكثر المراقبين تفاؤلًا. ففي غضون أسبوعين فقط، تلقى عبدالصادق أكثر من 400 خطاب اهتمام — نعم، أربعمائة — من شركات حول العالم استشعرت فجأة احتمالًا كاد أن يُنسى: ليبيا تعود إلى الساحة».
وقال «يونس»، إنه «وزير النفط الليبي يدرك تمامًا أن كل هذا الزخم الدولي لا يساوي شيئًا ما لم تنجح ليبيا في تنظيم بيتها الداخلي»، متسائلًا: «فالسؤال الحقيقي ليس: هل ترغب الشركات الأجنبية في الدخول؟ بل: هل تمتلك ليبيا الكفاءات والأنظمة اللازمة لتحويل هذه العودة إلى قصة نجاح؟».
وأكد أنه «ليست هذه 22 رقعة عشوائية، بل تمثّل بطاقة ليبيا للعودة إلى مصاف كبار منتجي الطاقة، تخيّل خريطة كنز تتوزع عبر ثلاث من أغنى مناطق البلاد بالفرص: حوض سرت الذي أثبت غزارته، حوض مرزق الشاسع والغني بالأسرار الجيولوجية، ومنطقة برقة الحدودية حيث يلتقي المغامرة بالوعد».
وأضاف يونس، أن «بعض هذه الرقع يضم حقولًا منتجة تنتظر من يعيد إليها الحيوية، وأخرى لا تزال مناطق مجهولة بالكامل — مساحات بيضاء على الخريطة قد تحمل في طياتها الاكتشاف الكبير التالي، الجدول الزمني صارم وواضح: أمام الشركات حتى سبتمبر 2025 لتقديم عروضها، على أن تُعلن النتائج مطلع 2026. لا وعود مؤجلة، ولا تغييرات مفاجئة في القواعد، بل مسار محدد قابل للتنفيذ».
وأكد أن «الزخم لا ينتظر. ففي مايو، وقّعت ليبيا اتفاقيات إطارية مع شركتي (شل) و(بي بي) لإحياء عقود طالها الجمود. ولسنا أمام كيانات ناشئة تختبر الأجواء»، بل أمام عمالقة يضعون رهانات جادة على مستقبل قطاع الطاقة الليبي، وفي الوقت نفسه، تخوض «إيني» و«أو إم في» و«ريبسول» مفاوضات متقدمة لاستئناف عملياتها، كما لو أن أصدقاء قدامى يستأنفون حديثًا طال انقطاعه.
وذكر الخبير السياسي أن «الوقائع على الأرض تعزز هذا الاتجاه، فمعدل الحوادث الأمنية تراجع بنسبة 40٪ منذ عام 2020 — وهو ليس مجرد رقم، بل رسالة طمأنة لمديرين تنفيذيين يتخذون قرارات بمليارات الدولارات، كما أن المؤسسة الوطنية للنفط أسست مكتبًا موحدًا لتصاريح المشاريع، إدراكًا منها أن البيروقراطية لم تعد تملك مكانًا في معادلة الاستثمار».
وتابع أنه «حتى مشكلات الصرف الأجنبي، التي طالما أقلقت مسؤولي الشؤون المالية، بدأت بالتراجع بفضل جهود التوحيد النقدي التدريجي التي يقودها مصرف ليبيا المركزي، هذه المرة لا تبدو مجرد فجر واعد ينتهي سريعًا، بل بداية قصة تحوّل حقيقية. فملف الطاقة في ليبيا تجاوز مرحلة «ربما يومًا ما»، ليدخل مرحلة «لنبدأ الآن» على أسس من الشراكة والاستدامة».
وأكد أنه «في يوليو، كان الوزير خليفة عبدالصادق يتنقّل بثقة بين أروقة «الندوة الدولية التاسعة لأوبك» في فيينا، مضيفًا:»بعد أعوام من التراجع والاضطراب، لم تعد ليبيا مجرد قصة تحذيرية في قطاع الطاقة، بل تحوّلت إلى قصة عودة مثيرة تترقبها العواصم العالمية«.
وتابع أنه «ناقش عبدالصادق مع مسؤولي (شيفرون) إمكانيات الغاز في أعماق المتوسط، ليس كمجرد مشروع استكشاف، بل كخيار استراتيجي قادر على إعادة رسم خريطة الطاقة في شمال إفريقيا».
كما ركّز وفد «أو إم في» على مشروعات الغاز البرية التي يمكن تصديرها مباشرة إلى النمسا وإيطاليا، وهي فرصة بالغة الأهمية في ظل اضطرابات الإمداد الأخيرة.
أما «توتال إنيرجيز»، فجاءت جاهزة لمناقشة تقدّم مشروع «الواحة شمال»، كما اقترحت إطلاق مشروع تجريبي للطاقة الشمسية قرب الجفرة، تأكيدًا على أن حتى دولة نفطية كليبيا لا تغفل أهمية طاقة الشمس.
كما أن وفد «أرامكو السعودية» كان تركيزهم على تقنيات احتجاز الكربون واستراتيجيات الهيدروجين الأزرق، ما يعكس رؤية بعيدة المدى تتجاوز المواسم والحقول إلى مستقبل الطاقة لعقود قادمة.
وتابع يونس، أن «كل حوار من هذه الحوارات شكّل دليلًا على أن ليبيا لم تعد لاعبًا ثانويًا، بل شريكًا استراتيجيًا في معادلة الطاقة الأوروبية بعد عام 2022. فالغاز الليبي بات «التذكرة الذهبية» للأسواق التي تسعى إلى تنويع مصادرها، وليبيا تدرك تمامًا هذا الدور».
وذكر أنه «مع كل هذا الزخم الدولي، ظل عبدالصادق على وعي بأن النجاح لا يُقاس فقط بحجم الاتفاقات، بل بقدرة الكفاءات المحلية على تحويل هذه الطموحات إلى واقع ملموس».
وتابع: «رغم أن العناوين تتصدرها الصفقات بمليارات الدولارات، فإن استمرارية قطاع النفط الليبي خلال سنوات التحدي اعتمدت على أداء مؤسساتي متماسك قادته كفاءات محلية عملت بهدوء خلف المشهد العام، في عام 2018، وبينما كانت البلاد تمر بظروف نزاع معقدة، تولّى قسم التسويق الدولي بالمؤسسة الوطنية للنفط مهمة الحفاظ على استقرار الصادرات، من خلال جهود منسقة أدارها فريق متخصص. من بين هؤلاء، برز عماد بن رجب، الذي عُيّن حينها مديرًا للتسويق الدولي، وأسهم مع زملائه في إبرام عقود توريد طويلة الأجل ساعدت على ضمان التدفق المستمر للنفط في ذروة الأزمة. كما شكّلت مشاركة المؤسسة في اللجنة الفنية المشتركة لأوبك، عبر ممثلين من ضمنهم بن رجب، مؤشرًا على قدرة الإطار المهني الليبي على الاندماج بكفاءة في المنصات الدولية المعنية بسياسات الطاقة».
وأكد أنه «وفي محور آخر لا يقل أهمية، يبرز الدور المتنامي لبناء القدرات الوطنية، بقيادة إدارات مثل إدارة التدريب في المؤسسة. ففي أبريل الماضي، أطلق محمد بشير، مدير التدريب، منصة تعليمية رقمية في بنغازي تهدف إلى تأهيل ألف مهندس وفني سنويًا، في خطوة تستهدف تعزيز الجاهزية الفنية للقطاع، وما يميز هذا البرنامج أنه لا يقتصر على التدريب التقليدي، بل يستند إلى شراكات استراتيجية مع جهات متخصصة مثل IHRDC و«الجوابي»، لتخريج كوادر قادرة على التعامل مع مجالات متقدمة، من إدارة المكامن إلى الصيانة الرقمية».
وأكد أن «هذه الجهود، سواء في التسويق أو التدريب، لا تنبع من مبادرات فردية فحسب، بل تعبّر عن تحول أوسع نحو تمكين الطواقم المحلية وتعزيز الاعتماد المؤسسي عليها. وهي من العوامل التي تعزز ثقة الشركاء الدوليين بأن ليبيا لا تملك فقط الموارد، بل تمتلك أيضًا الكفاءات التي يمكنها إدارة هذه الموارد بكفاءة واستدامة، فالحقيقة الراسخة في عالم الطاقة هي: بإمكانك أن تمتلك أكبر احتياطيات في العالم، لكن إن لم تمتلك أشخاصًا قادرين على تحويلها إلى إيرادات، فلن تكون سوى لعنة موارد أخرى، رغم كل هذا الزخم الدولي، وكل تلك الكفاءات المحلية، فإن النجاح لا يمكن أن يُبنى دون إصلاح حقيقي للجذور. والخبر السار أن ليبيا بدأت بالفعل تتحرك — ولم يعد الأمر مجرد وعود متكررة«.
وأكد يونس أنه من كان يتخيل أن الحصول على عقد في ليبيا لن يعود معادلًا لخوض متاهة بيروقراطية؟ في عام 2023، اتخذت المؤسسة الوطنية للنفط خطوة حاسمة بإطلاق «بوابة المناقصات الإلكترونية» — قد تبدو تقنية بسيطة، لكنها تحمل دلالات ثورية.
وفي ندوة فيينا الأخيرة، أعلن رئيس المؤسسة، مسعود سليمان، التزامات واضحة: احترام حدود الإنتاج ضمن تحالف «أوبك+»، تقليص انبعاثات الميثان، والانطلاق نحو قطاع الصناعات البتروكيماوية — من الأسمدة إلى الميثانول والإيثيلين.
وأوضح الخبير السياسي أنها «ليست مجرد تصريحات عابرة، بل أسس واضحة تبني الثقة وتفتح الأبواب أمام شراكات حقيقية، والأهم أن هذه الإصلاحات لا تهدف فقط إلى جذب المستثمرين، بل إلى بناء منظومة تؤمّن إيصال عائدات النفط إلى عمق المجتمع الليبي، حيث تُحدث الفرق الحقيقي»:.
وتابع: «تنتج ليبيا حاليًا نحو 1.3 مليون برميل نفط يوميًا — رقم لا يُبقي البلاد مضاءة مجازيًا فحسب، بل حرفيًا. إذ يُشكّل النفط مصدر تمويل لما يقارب 60% من الميزانية العامة — من رواتب المعلمين، إلى الأدوية والمعدات الطبية في المستشفيات، ولكل زيادة بمقدار 100 ألف برميل يوميًا، تضخّ الخزينة الليبية ما يقارب 2 مليار دولار إضافية سنويًا — أموال يمكن تحويلها مباشرة إلى مشاريع تعليمية، وشبكات طرق حديثة، وخدمات كهرباء مستقرة».
وذكر أنه «أما على صعيد الغاز، فالقصة تحمل بُعدًا استراتيجيًا لا يقل أهمية. فرغم امتلاك البلاد لاحتياطيات غاز واعدة، لا تزال تعتمد على استيراد الديزل لتشغيل محطاتها الكهربائية. تشغيل مشروعات الغاز المحلي لن يُنهي هذا النزيف النقدي فحسب، بل سيسهم أيضًا في خفض فاتورة الدعم الحكومي وتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي في الطاقة، ومن منظور الشركات الدولية، فإن الاستثمار في ليبيا لا يُعد مجاملة سياسية أو عملًا خيريًا، بل فرصة استراتيجية حقيقية. فالدولة تقع على عتبة أوروبا، وتنتج نفطًا منخفض الانبعاثات نسبيًا، وتُقدّم إمدادات قابلة للدفاع عنها بيئيًا في ظل المعايير العالمية المتزايدة الصرامة».
وأكد أن «عودة النفط الليبي لم تعد مجرد احتمال، بل أصبحت واقعًا ملموسًا. ومع ذلك، فإن هذا الزخم لا يزال هشًا، وتحويله إلى نجاح مستدام يتطلب ما هو أكثر من المؤتمرات والتصريحات، الفرصة الآن متاحة أمام شركات الطاقة لتخطو إلى الداخل — لا لتتريث. فاستراتيجية الغاز الليبية لم تعد غامضة أو مؤجلة؛ بل صارت واضحة وعملية. ورغم أن التحول الطاقي العالمي ماضٍ في طريقه، فإن ليبيا لا تنوي البقاء على الهامش، لكن مجرد الانطلاقة لا تكفي. ما تحتاجه المرحلة هو الاستمرارية. استثمروا في بناء القدرات، طالبوا بترسيخ الشفافية، وساهموا في تسريع آليات الموافقة — فالوقت لم يعد يسمح بمزيد من البيروقراطية».
واختتم قائلًا: «فلنتذكر أن لا الحفارات ولا الأنابيب ستكون ذات جدوى إن لم تتوفر الكفاءات القادرة على إدارتها. فبن رجب وبشير ليسا مجرد رمزين لمرحلة، بل يمثلان البنية البشرية التي سيُبنى عليها مستقبل الطاقة في ليبيا».