عبدالرحمن الصلاحي يكتب: عسكرة الأزمات الإنسانية.. الهجرة غير الشرعية للأفارقة بوابة للهيمنة الإقليمية في اليمن
وكأنني أسمع همس الأمواج على شواطئنا اليمنية.. تحمل مع كل زفرة رملية حكايات مرعبة. حكايات قوارب متهالكة تئنّ تحت وطأة أجساد هاربة من جحيم الفقر، تحلم بأرض لا تعرفها، لتسقط أخيراً في فخ أكبر.. فخ يُحاك في دهاليز السياسة الدولية، حيث تستقبلهم مخالبها التي حوّلت معاناتهم إلى عملة تتداولها الأجندات الخفية لتُصبح مجرد رقم في معادلة النفوذ، ومآسيهم سلعة في سوق المصالح الإستراتيجية.
الحديث عن مضيق باب المندب ليس حديثاً عن جغرافيا بحتة، بل هو حديث عن شريان العالم النابض الذي يعبر منه 12% من نفط العالم، و30% من تجارته، ومنه أيضاً تعبر أحلام مئات الآلاف من الأفارقة المنهكة، الذين لا يدركون أنهم تحولوا -بغير إرادتهم- إلى أوراق ضغط في لعبة كبرى ، لعبة تتبارى فيها قوى العالم لتثبيت أقدامها على أرضنا، تحت ذرائع براقة تتحضر في الوقت التي تراه مناسب لإعلان الحرب على الهجرة غير الشرعية، بينما تخفي حروباً أشرس تطمح من خلالها لإحتلال البحر والسيطرة على مفاصله.
والأكثر إيلاماً أن هذه المسرحية لا تُقام على خشبة واحدة، بل تتعدد خشباتها وتتشابك خيوطها. فهناك من سيسعى لتأمين طرق النفط تحت غطاء إنساني، وهناك من يبحث عن موطئ قدم لمواجهة منافسيه الجيو-إستراتيجيين، وهناك من يحوّل سواحلنا إلى ساحات تجارب لأسلحته وكلهم يجتمعون على خطاب واحد: "نحن هنا لمساعدتكم"! وكأنهم يريدوننا أن نصدق أن ذئاب المصالح تتحول فجأة إلى ملوك الإنسانية!
وفي هذا المشهد المعقد، تبرز أطراف إقليمية تتقن فن إستثمار الفوضى فإيران في سعيها لتصدير نموذجها السياسي، وجدت في أزمة الهجرة غير الشرعية وسيلة لتمويل وتسهيل تهريب الأسلحة والمقاتلين، مستغلة المعابر البرية والبحرية المزدحمة بالمهاجرين لخلق شبكات نفوذ موازية.
وهذا لا يقل عن خطورة الدور الإسرائيلي في هذا المشهد، فإسرائيل سعياً لتفكيك النسيج العربي وتعزيز إنقساماته، تستخدم أدوات غير مباشرة لتمويل شبكات تهريب عبر اليمن لخلق حالة من عدم الاستقرار الدائم، وتحويل البحر الأحمر إلى منطقة صراع مزمن يشغل العالم العربي عن قضيته المركزية.
فاليمن ليس أرضاً مباحة والبحر الأحمر ليس مزرعة للهيمنة، ودماء الأفارقة الذين يُرمون في الأعماق كأرقام لا تعني شيئاً في حسابات القوى الكبرى.
والسؤال هنا: أين الضمير العالمي الذي يتحدث عن حقوق الإنسان؟ أين منظماتهم الدولية التي تُدين إنتهاكات بعيدة بينما تغض الطرف عن إنتهاكات تحدث على مرأى العالم؟ لماذا لا نسمع صوتاً عالياً يندّد باستغلال مأساة الهجرة لتحقيق مكاسب جيو-إستراتيجية؟ لماذا تُعامل هذه القضية وكأنها مجرد ملف أمني تقني، وليس قضية إنسانية وسياسية كبرى؟
إن ما يحدث على شواطئنا هو إختبار حقيقي لأخلاقية النظام الدولي. فإذا كان العالم جاداً في معالجة أزمة الهجرة، فليبدأ بمعالجة أسبابها الجذرية في دول القرن الأفريقي، لا بتحويل سواحلنا إلى ثكنات عسكرية.
وفي قلب هذه العاصفة الجيو-إستراتيجية، ندرك الفرق الجوهري بين من يسعى لإستغلال أزمتنا، وبين من يمد يده لإنقاذنا فنحن نثق ثقة عميقة بالتحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية الحليف والجار المؤتمن، الذي يبذل جهوداً عظيمة في الحفاظ على اليمن ووحدته وسيادة أرضه. هذه الثقة ليست شعارات نرددها، بل هي قناعة تنبع من واقع ملموس: من التضحيات الجسام التي قدمها الأشقاء في سبيل أمن اليمن وإستقراره، ومن الدعم المتواصل لمؤسسات الدولة الشرعية، والوقوف إلى جانب الشعب اليمني في أحلك ساعات معاناته.
كما نحيي الدور المحوري لجمهورية مصر العربية قلعة العروبة وشقيقتنا الكبرى، التي تقف دائماً مع اليمن بمواقف إيجابية راسخة تستند إلى ثوابت تاريخية وجغرافية، ودماء مشتركة تجري في عروقناجميعا. فمصر بحكمتها وثقلها التاريخي، تدرك أن البحر الأحمر بحر عربي واحد وأمنه أمن لا يتجزأ، وأن إستقرار اليمن هو حجر الزاوية في إستقرار المنطقة كلها.
أخيراً.. نقول للعالم: كفى إستغلالاً لمأساتنا! كفى تحويل معاناة البشر إلى سلعة سياسية! اليمن ليس أرضاً بلا شعب، والبحر الأحمر ليس مياهاً بلا تاريخ. إنه بحر العرب، وقد حمل سفن حضاراتنا وآبائنا منذ آلاف السنين. سنحميه كما حماه أجدادنا، وسنعيد له هيبته كما كانت.. بحراً للتواصل والتجارة، لا للهيمنة والاحتلال.
المهندس / عبد الرحمن عبد الله الصلاحي
مدير وحدة الدراسات العلمية والبيئية والإستثمار
مركز البحر الأحمر للدراسات السياسية والأمنية – الجمهورية اليمنية













