أحمد سيف اليزل: المستعربون بين البندقية والكاميرا… كيف تحوّلت جرائم الحرب إلى دراما على نتفليكس؟

في زمن تتحول فيه الجرائم إلى روايات، والاحتلال إلى دراما، تصبح الكلمة الصادقة فعل مقاومة. هذا المقال يسلط الضوء على كيف استغلت إسرائيل أدوات الإعلام، وتحديدًا مسلسل "فوضى"، لتسويق وحدات قتل واغتيال على أنها بطولات إنسانية، وكيف تصطدم هذه الصورة المصطنعة بالحقائق الميدانية.
استخدمت إسرائيل العديد من الحيل في حملاتها الدعائية العالمية لإظهار نفسها كدولة إنسانية قوية، ولترسيخ صورتها باعتبارها القوة المهيمنة في منطقة شرق المتوسط. وكان لهذه الإستراتيجية هدفان أساسيان: الأول زرع الخوف في نفوس الشعوب العربية، والثاني كسب احترام القوى الدولية، في عالم لا يحترم سوى القوة. ومن أبرز الأدوات التي استخدمتها إسرائيل لتحقيق هذا الهدف هي القوة الناعمة عبر وسائل الإعلام والدراما، وكان مسلسل "فوضى" (Fauda) مثالًا صارخًا على هذا النهج.
مسلسل "فوضى" الذي امتد لأربعة مواسم، آخرها صدر في يناير 2023، ركز على تصوير وحدة "المستعربين" الإسرائيلية، التي تزعم إسرائيل أنها وحدة نخبة قادرة على التسلل بين الفلسطينيين والعرب، إذ يتحدث أفرادها اللغة العربية بطلاقة، ويعيشون حياة عربية كاملة، حتى أنهم يمارسون شعائر دينية مثل الصلاة والوضوء، ويجيدون التحدث بلهجات محلية فلسطينية ولبنانية وأردنية. كل هذا تم عرضه بشكل درامي ومبهر، ما أثار إعجاب بعض المشاهدين العرب الذين أخذوا يتحدثون عن "قوة إسرائيل الخارقة".
تعود جذور وحدة المستعربين إلى بدايات القرن العشرين، لكنها برزت بشكل واضح مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر الثمانينات، واستخدمتها إسرائيل في عمليات اغتيال واختطاف لشخصيات فلسطينية. ورغم محاولات إسرائيل تصوير هذه الوحدة كقوة بطولية، فإن تقارير حقوقية عديدة تصنف أعمالها كجرائم حرب ممنهجة.
لطالما استخدمت إسرائيل الإعلام والقوة الناعمة كأداة استراتيجية لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية. ومسلسل "فوضى" لم يكن أول محاولة في هذا السياق، بل سبقه العديد من الأفلام والمسلسلات التي هدفت لتجميل الاحتلال الإسرائيلي وتزييف وعي الرأي العام العالمي.
لكن ما تجاهله المسلسل تمامًا، وما حاولت إسرائيل بكل قوتها إخفاءه، هو الحقيقة المرة خلف هذه الوحدة. فالمستعربون هم بالأساس وحدة اغتيالات وخطف تعمل خارج إطار القانون الدولي، وتنتهك بشكل ممنهج حقوق الإنسان، وترتكب جرائم حرب موثقة دوليًا. وقد أشار العديد من المنظمات الدولية، ومنها منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، في تقارير متعددة إلى أن عمليات وحدات المستعربين تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، خاصةً عمليات القتل خارج إطار القانون واستخدام المدنيين كدروع بشرية.
ورغم هذا، فإن الدعاية الإسرائيلية نجحت في تقديم أفراد هذه الوحدة كمقاتلين أبطال، عبر منصات مثل نتفليكس التي ساهمت في نشر هذا التزييف عالميًا، من خلال تحويل جرائم الحرب إلى بطولات مزعومة. ولعبت منصة نتفليكس دورًا رئيسيًا في تعزيز الدعاية الإسرائيلية من خلال عرض مسلسل "فوضى" على مستوى عالمي واسع، وهو ما ساهم في نشر صورة مغلوطة عن الواقع الفلسطيني، مما أدى إلى مطالبات واسعة من قبل ناشطين ومنظمات حقوقية بإعادة النظر في محتوى ما يعرض عالميًا، خصوصًا ما يتعلق بقضايا حساسة مثل الاحتلال وانتهاكات حقوق الإنسان.
لكن الواقع كان دائمًا قادرًا على فضح كذب هذه البروباغندا. ففي حرب غزة الأخيرة، ورغم السيطرة الإسرائيلية الكاملة على القطاع ومحاصرته، عجزت وحدات النخبة، ومنها وحدة المستعربين، عن تحرير أو حتى الوصول إلى أسرى إسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية في غزة. هنا بدأت التساؤلات تظهر بقوة: أين هي تلك الوحدة التي زعموا قوتها الأسطورية؟ وأين ذهبت الصورة الدعائية الهائلة التي قدمها المسلسل عن قدرتهم؟
ومع مرور الوقت، بدأت الحقائق تتكشف أكثر فأكثر. في مايو 2025، حدث موقفان كانا بمثابة القشة التي قصمت ظهر البروباغندا الإسرائيلية. الأول، حين قام شاب فلسطيني بكشف هوية أحد أفراد وحدة المستعربين خلال عملية في الضفة الغربية، وبالرغم من أن الشاب الفلسطيني كان واضحًا في رفع يديه مستسلمًا، إلا أن فرد المستعربين قتله بدم بارد، وهو ما وثقته الكاميرات وأثار موجة غضب دولية.
أما الحادثة الثانية، فكانت أكثر فضائحية وتعريةً لكذب الاحتلال. حيث نفذت وحدة المستعربين عملية فاشلة في غزة متنكرين بملابس نساء نازحات بهدف اختطاف أحد قياديي كتائب القسام. وعندما فشلت العملية، لجأ الجنود لاستخدام زوجة القيادي وأطفاله كدروع بشرية لتأمين انسحابهم وخطفهم بالفعل.
هاتان الحادثتان كشفتا بشكل واضح أن ما قدمه مسلسل "فوضى" وغيره من المسلسلات الدعائية الإسرائيلية ليس سوى أوهام تهدف لتبييض صورة الاحتلال وإخفاء جرائمه المروعة. فما حاولت إسرائيل تسويقه كقوة بطولية وإنسانية ليس في الواقع سوى آلة حرب وحشية تنتهك كل الأعراف والقوانين الإنسانية.
هكذا، يتضح جليًا أن الدعاية الإسرائيلية التي استخدمت فيها القوة الناعمة، مثل مسلسل "فوضى" عبر منصة نتفليكس، ليست سوى أداة لخداع العالم وتزييف الحقائق، ما يوجب على الجميع اليقظة الدائمة لفضح هذه الأكاذيب، والتأكيد على حقائق الواقع التي لا يمكن إخفاؤها إلى الأبد.