الخميس 2 مايو 2024 مـ 01:13 مـ 23 شوال 1445 هـ
موقع الصفوة
رئيس التحرير محمد رجبالمشرف العام رحاب غزالة

«دولة المماليك.. العبد حين يتحكم»

لويس عوض: المماليك خربوا الصناعة المصرية وتسببوا في انهيار الطبقة المتوسطة

ابن إياس يروى عن تحول كبار التجار وأرباب الصناعات لوكلاء الاحتكار السلطاني

ابن كثير: الناصر قلاوون كان يتعاطى الرشوة في صورة هدايا عينية

عبيد من الترك الشركس والمغول المقاتلين بأجر، نجحوا في السيطرة على مفاتيح الحكم في مصر بالدهاء والخديعة ومحاربة المصريين وقمع الثورات. استقروا في الحكم أكثر من 250 عاما، فكيف حكمونا كل هذه المدة؟

حتى وإن قال شاعر كبير بحجم عبد الرحمن الأبنودي: “حكموكي ما حكموكي.. برضه المصري مصري والمملوك مملوكي”، سأظل أسأل: كيف؟ ولماذا؟

صحيح طبعا أن المصري مصري، ولكن لم يشهد تاريخ العرب والمسلمين، وبالأحرى المصريين، حالة مستمرة من “الاستكراد” والاستغفال بقدر ما رآها على أيدي المماليك تحديدا.

المماليك هم من باعوا الوهم للمصريين، وأقنوعهم بأنهم جاؤوا ليطبقوا الشريعة الإسلامية، بإعادة الخلافة إلى سابق عهدها، بعد سقوط بغداد عاصمة الخلافة والدولة العباسية، ووقوعها في أيدي المغول.

والمماليك هم من باعوا الوهم للمصريين مرة ثانية، وأقنعوهم بأن الدولة فقط هي صاحبة اليد الطولى في الاقتصاد، باحتكار أدوات الإنتاج من المصانع والأراضي والورش والحرف والسلع، فعم الفساد البلاد وانتشرت الرشاوي، وأصبح الناس في فقر دائم إلا من ارتبطت مصالحه المباشرة بمصالح المماليك، وعمل معهم كجابي أو “وكيل” لأعمالهم.

سأختصر معكم ما أمكنني بدايتهم، حتى نلتقي معا على أرضية مشتركة، سواء من قرأ عنهم من قبل واستكشف بنفسه طريقتهم في الحكم، أو من لم يقرأ بعد.

طبقة المماليك

ظهرت بعد انهيار الدولة الأيوبية، وامتدت حتى العصر العثماني. تنقسم دولتهم إلى المماليك البحرية الذين حكموا من سنة 648 هجرية حتى 784 ثم المماليك البرجية الذين حكموا حتى سنة 923 وكانوا من الشركس أو “الجراكسة”، كان أكثرهم من الترك والمغول. أصلهم رقيق محاربين بالأجر واللقمة، استقدمهم الخلفاء العباسيين من تركستان والقوقاز وغيرها وكانوا حراسا لهم، وتشعب نفوذهم بمرور الزمن حتى أصبحوا يهيمنون على الخلافة، مستفيدين من ضعف الخلفاء وتراجع نفوذهم.

والمملوك هو العبد الذي تم أسره ولم يملك أبواه، والعبد القن هو الذي تم تمليكه هو وأبواه. والمملوك عبد يباع ويشترى. ولم تلبث التسمية أن تتخذ مدلولا خاصة في التاريخ الإسلامي، إذ اقتصرت منذ العهد العباسي على فئة من الرقيق الأبيض، كان الخلفاء وكبار القادة والولاة يشترونهم من أسواق النخاسة البيضاء لاستخدامهم كفرق عسكرية خاصة، بهدف الاعتماد عليهم في تدعيم نفوذهم. وأصبح المملوك مع الوقت الأداة العسكرية الوحيدة في بعض الدولة الإسلامية.

كيف تحكم المماليك في الاقتصاد المصري؟

السمة التي غلبت على حكم المماليك هي الاحتكار، أو احتكارية الدولة، بحيث يتركز الاقتصاد في أيدي السلاطين، بداية من احتكار الأراضي المنتجة، ومرورا باحتكار عملية سك العملة واحتكار الصناعة والزراعة والتجارة وحتى النقل والموانئ، مما أدى لانهيار الاستثمار الفردي والملكيات الفردية تقريبا.

انهيار البرجوازية ورجال الأعمال

يتحدث ابن خلدون في “مقدمته” بكثير من التفصيل عن احتكار السلاطين للمرافق العامة، ولتدخل الدولة بشكل مباشر في عمليات الإنتاج الزراعية والصناعية والتجارية ومنافستها للاستثمار الفردي في كافة المرافق، وكان الخراج يدفع عينيا من الغلال من الصعيد كما هو الحال في سوريا.

يقول لويس عوض في كتابه “تاريخ الفكر المصري الحديث”: لم يكن توسع السلاطين في تملك مرافق الإنتاج بقصد تنمية الاستثمار العالم، ولكن بقصد مواجهة نفقات الجيش أساسا. وكلما خوت خزائن السلطان، كان يلجأ لتمويل الجيش إلى مصادرة أموال الأغنياء عن طريق المباشرين أو إلى تخفيض قيمة العملة!

كان هناك نظام دائم لمصادرة جزء كبير من الأموال الموروثة عن طريق ديوان المواريث التابع للسلطان، ما جعل الأمراء الأغنياء والبورجوازيين يكتنزون الذهب والفضة ويكومونها فوق بعضها ويدفنونها عادة تحت الأرض أو بمعنى أدق “تحت البلاطة” أو يخبئونها في أماكن لا يعرف لها إنس ولا جن طريق، بدلا من استثمارها في الزراعة أو الصناعة والتجارة.

إذن، احتكرت الدولة الاستثمارات، لتأمين تدفق الأموال إلى جيوب السلاطين ولتغطية نفقات الجيش.. فكيف عاشت مصر هذه الأيام؟

هل نمت طبقة رجال الصناعة؟

بالطبع لا، وبشيء من التفصيل عجزت صناعة رجال الأعمال عن منافسة صناعة الدولة، بسبب استثمار الصناعة السلطانية بالمواد الخام بالمجان سواء بالاغتصاب أو بأزهد الأسعار بالإكراه، وبسبب إعفائها من الرسوم والضرائب!

وفي بعض الأحيان لجأ بعض السلاطين الأتراك إلى إغلاق المصانع المنافسة بالقوة تأمينا لاحتكار الدولة لوسائل الإنتاج.. وهكذا عرفت مصر نظام رأسمالية الدولة طوال الحكم المملوكي التركي في العصور الوسطى حتى عام 1789.. هذا ما يذكره العظيم لويس عوض بالنص، ولا أعرف كيف كانت رؤيته ثاقبة على هذا النحو وهو المتوفي سنة 1990.

أدت هذه العملية المستمرة من احتكار الاستثمارات إلى تخريب الصناعة المصرية في العصور الوسطى وإلى ذبول طبقات بأكملها هي الطبقات المتوسطة، خاصة من الصناع والتجار طبعا. بل إن السلاطين لم يهتموا حتى بتحويل المصانع الخاصة التي انتهى الحال بها للإفلاس إلى مصانع مملوكة للدولة أو بإعادة تأهيلها بأي شكل.

تصفية المصانع المنتجة

يذكر مؤرخ الديار المصرية “ابن دقماق” تفصيلا ما جرى في الفساط، التي كانت واحدة من أهم المراكز التجارية لمئات السنين. كان في هذه المدينة وحدها 58 مصنعا خاصة يملكها أفراد لتصنيع السكر ولم يبق منها إلا 19 مصنعا فقط، أما المصانع الباقية وهي 39 مصنع فأصابها العطب وتوقف الإنتاج فيها، وقد أحصى ابن دقماق منها 5 مصانع تحولت لإنتاج أشياء أخرى و17 مصنعا تحولت إلى مجرد مساكن ودكاكين ومخازن للفحم والملح وخانات أو وكالات للبيع، و5 مصانع أغلقت أو تهدمت، و12 مصنعا لم يعرف لها ابن دقماق مصيرا واضحا.

ويذكر ابن إياس أن كبار التجار وأرباب الصناعات تحولوا إلى مجرد وكلاء للاحتكار السلطاني، وعرفوا وقتها باعتبارها “تجار السلطان” أو وكلاؤه. كانوا عادة ما يجمعون من عمليات الوساطة هذه ثروات كبيرة، ولكن السلطان كان ينقض عليها لمصادرتها بين الحين والآخر، مما حال دون تكون طبقة بورجوازية فعالة يمكن أن يكون لها كيان مستقل أو إرادة مستقلة عن إرادة السلطان، كما يذكر لويس عوض مجددا.

أما أبناء السلطان فكانوا يحتكرون القسم الأكبر من الإنتاج الزراعي، خاصة تجارة الغلال والنقل المائي. فيذكر ابن دقماق أن 23 مصنعا للسكر في الفسطاط ملكها الأمراء الكبار في فترات مختلفة، ومع ذلك لم يكن تركز رؤوس الأموال حتى في هذه الطبقة الممتازة بالوراثة بسبب كثرة المصادرات المفاجئة وبسبب المصادرات القانونية عن طريق ديوان المواريث، وبسبب قيام المماليك الجدد المملوكين من الخارج بطرد أبناء المماليك القدامة المتمصرين وطرد نسلهم بفصة عامة من أرضهم، ومن هنا جاءت تمسيتهم بـ “أولاد الناس”.

السؤال المنطقي الآن: وماذا بعد؟ وما الذي ترتب على مركزية الاقتصاد على هذا النحو؟

يشير العديد من الباحثين والمؤرخين إلى نتائج عديدة لهذا الوضع البائس، أهمها عدم تشكل طبقة برجوازية حقيقية في مصر في ذلك العهد، ثم قيام ثورات اجتماعية واقتصادية عديدة بين عام وآخر، وعدم استقرار الحكم والناس في معيشتهم، وظهور طبقة جديدة من المنتفعين من كل هذا التشوه من رجال الحكم من المماليك أنفسهم وأبنائهم وكل من اقترب منهم وتوسموا فيه أنه من “أهل الثقة”، ثم ازدهار الرشاوى المقنعة والمكشوفة على مدى تاريخ المماليك بين أبناء هذه الطبقة.

ولاية المناصب لغير أهلها

يذكر الدكتور أحمد عبد الرازق في دراسته “البذل والبرطلة زمن سلاطين المماليك” أن مصادر التاريخ تفيض بأخبار هؤلاء الذين لجأوا إلى الرشوة من أجل قضاء حوائجهم. يقول الرحالة ابن بطوطة أن أحد التجار دفع رشوة ألف دينار لولاية قضاء الإسكندرية زمن السلطان الناصر محمد بن قلاوون. ويذكر أن القاضى علاء الدين بن عثمان تولى قضاء حلب عن طريق الرشوة، وأن شمس الدين غبريال الناظر استطاع الإفلات من السجن وينسحب إلى الشرق عن طريق الرشوة.

ويروى المقريزي في حوادث سنة 734 أن “البرطلة” كانت سببا في قلة متحصلات الديوان من الأموال. ويذهب ابن كثير إلى أن الناصر قلاوون نفسه كان يتعاطى الرشوة في صورة هدايا عينية. يقول الرجل: “قدم القاضي بدر الدين بن الحداد متوليا حسبة دمشق، فخلع عليه عوضا عن فخر الدين سليمان البصراوي، فسافر سريعا إلى البرية ليشتري خيلا للسلطان يقدمها رشوة على المنصب المذكور”.

عرفت الرشوة في عهد السلطان الناصر شهاب الدين أحمد أيضا، يقول المقريزي إن سيرته كانت سيئة ونقم الأمراء عليه أمورا كثيرا منها أن رسله التي كانت ترد من قبله إلى الأمراء برسائله وأسراره “أوباش أهل الكرك”، فلما قدموا معه إلى مصر أكثر من أخذ البراطيل وولاية المناصب غير أهلها.

وفي أيام السلطان الصالح عماد الدين إسماعيل (تظهر مفارقة اسمه مع عمله الأسود) شاعت الفوضى ودب الفساد في جميع أركان الدولة بسبب تمكن الخدام والجواري من السلطان وصار الناس يقصدونهم بالهدايا لقضاء حوائجهم.

ويظهر أن السلطان الكامل شعبان مثلا، الذي حكم مصر سنة واحدة، قد فاق جميع أقرانه في ميدان تلقي الرشاوى وفتح الدرج للهدايا النقدية والعينية، إذ أقل على بيع الإقطاعات بلا حرج عن طريق البذل، لدرجة أن الإقطاع كان يخرج عن صاحبه وهو لا يزال حي يرزق على يد أغرلو والي القاهرة الذي فتح له باب الأخذ على الإقطاعات والوظائف، بل وأحدث لذلك ديوانا قائما بذاته اسماه ديوان “البذل”.

يروي ابن تغري بردي يصفه بأنه “أشر الملوك ظلما وعسفا وفسقا. وأنه في أيامه خرجت بلاد كثيرة لشفعه باللهو وعكوفه على معاقرة الخمور وسمع الأغاني وبيع الإقطاعات بالبذل”.

وشهد هذا العصر بالطبع تنافس الأعيان في الوصول للسلك القضائي عن طريق الرشاوى، يروى المؤرخون روايات يصعب حصرها حقا عن هذه الحوادث، فيقول المقريزي مثلا: قدم كثير من أهل دمشق للسعي من باب الوزير منجك في المباشرات للبرطلة، وفي رجب من عام 749 قصد عدة من أطراف الناس باب الوزير للسعي في الوظائف بالمال فلم يرد أحد!

ويروى المؤرخ أبو الفداء أن قاضى حلب ويدعى نور الدين الصائغ كان صالحا عفيفا لم يكسر قلب أحد، ولكنه لخيريته طمع قضاة السوء في المناصب، وصار المناحيس يطلعون إلى مصر ويتولون القضاء في النواحي بالبذل، فحصل بذلك وهن في الأحكام الشرعية.

الرشوة من أجل الوظائف الحساسة

يقول الدكتور أحمد عبد الرازق بوضوح: لا جدال في أن البذل والبرطلة أصبحا من السمات المميزة لعصر سلاطين المماليك، وأصبحا الطريق الوحيد الموصل إلى الوظائف الهامة في الدولة، بعد أن أصبحت الجدارة والكفاءة لا وجود لها أمام طوفان الأموال المبذولة، ما أدى إلى خراب الدولة خاصة بعد أن امتدت الرشوة إلى مجال الوظائف العسكرية التي كانت بمثابة العمود الفقري لدولة سلاطين المماليك.

أما الولاة فكانوا يعينون بالواسطة أو الرشوة، حتى أن هذه الوظيفة صارت مصدر ظلم للناس. يقول المقريزي عن الولاية في أوائل القرن التاسع الهجري ما نصه “أما والي القاهرة ووالي مصر، وغيرهما من سائر ولاة النواحي، فإن جميع ما يسرق من الناس يأخذونه من السراق، إذا ظفروا به، فلا يأتون بسارق معه سرقة إلا أخذوها منه، فإن لم تكن السرقة معه ألزموه مالا، ويتركونه لسبيله. وقد تيقن أنه متى عثر عليه صانع من نفسه وتخلص. وصار كل من يقطع من السراق يده، إنما يقطع لأحد الأمرين: إما لقوة جاه المسروق منه، أو عجز السارق عن الوفاء باحتياجات الولاة.

ومثلما تدهورت أحوال الوظائف العامة الخدمية والحكومية والسلك النيابي والقضائي والوظائف العسكرية، انهارت الوظائف الدينية أيضا بالرشاوى، فأصبح سلطان المال أقوى من سلطان الدين والعقل والجدارة والكفاءة.

تأتي وظيفة قاضي القضاة على رأس هذه الوظائف الدينية آنذاك، حيث كان لصاحبها حق الجلوس بالحضرة السلطانية بدار العدل الشريف، والتحدث في الأحكام الشرعية وتنفيذ قضاياها، والقيام بالأوامر الشرعية والفصل بين الخصوم وتعيين النواب من القضاة للتحدث فيما عثر عليه مباشرته بنفسه. كما كان يعهد إليه بالإشراف على أموال الأيتام والأوقاف والتحدث فيما يقتضيه مذهبه بالقاهرة والفسطاط، فضلا عن الخطابة في جامع القلعة بالديار المصرية.

ثورات شعبية

الآن فقط ألتقط أنفاسي، وأعود معكم إلى الجانب المشرق في هذا الظلام الحالك.

لم يقف الناس أمام هذا الظلم الفادح مكتوفي الأيدي على طول الخط، إنما شهد عصر المماليك ثورات كبرى متعددة وكثيرة، ويجمع باحثو التاريخ على أن أكثر العصور التي شهدت ثورات ضد الحكام هي المماليك.

ربما بدأت أولى الثورات ضدهم سنة 651 هجرية بزعامة الشريف حصن الدين بن ثعلب، الذي تم شنقه في عهد السلطان بيبرس، وهي ثورة كبرى اشترك فيها كل بدو مصر، وتم إخمادها بوحشية بالمناسبة، وكان هدفها إقامة سلطنة بدوية مستقلة عن السلطنة المملوكية.. هذه الثورة تحديدا سببت فزعا مستمرا لقرون بين سلاطين المماليك، جعلهم لا يستعينون بالبدو أبدا في المعارك، ودفعهم لاستجلاب مماليك جدد أولا بأول لضمان ولائهم، وحتى غلق باب الوظائف العسكرية العليا في وجه أبناء المماليك المتمصرين “أبناء الناس”.

بدأت ثورة حصن الدين ثعلب بتأسيس دولة مستقلة في الصعيد ، ثم اندلعت ثورة الهوارة وبني سليم بزعامة حصن الدين بن ثعلب سنة 651 واستمرت 7 أعوام على الأقل.

وفي الصحراء الغربية، اعتادت قبيلة “لبيد” في البحيرة الثورة ضد المماليك، وكانت أهم أسبابها المطالبة بالسماح لها بالرعي في موسم الجفاف والسماح بالتبادل التجاري مع مصر.

ويذكر ابن أياس أن ثورة زراعية كبرى قامت في الصعيد عام 754 بقيادة الأحدب شيخ قبيلة عرك. ثم تظهر ثورة على أيدي البدو والفلاحين أثناء حكم السلطان الصالح صلاح الدين، وبعد إخمادها يحظر على أي فلاح أن يركب الخيل أو يحمل السلاح.

وكان سبب خوف المماليك الدائم من قيام ثورة شاملة تجتاح البلاد كلها هو تواتر وقوع ثورات صغيرة، مثلما يذهب لويس عوض، ولم تتخذ ثورات الفلاحين المصريين طريق الهجوم على قلاع أمراء الإقطاع من المماليك على الطريقة المألوفة في ثورات الفلاحين الأوروبية، وإنما اتخذت صورة الصراع حول المحاصيل. ففي اصعيد كان أمراء الإقطاع من المماليك يتقاضون أكثر حصتهم عينا من المحصول، أما في الوجه البحري فكانوا يتقاضون الخراج نقدا، مما ألزم الفلاحين بيع محاصيلهم بالسعر الذي حدده الأمراء أنفسهم، حيث كانوا يسيطرون على سوق القمح.

وكانت غلال الصعيد نفسه تشحن بأمرهم إلى ساحل الغلال ببولاق على مراكب النيل، فكان هذا بمثابة عملية تجويع منظم للريف.

يروى ابن إياس في وصف هذه الحالة أن الفلاحين كثيرا ما كانوا يقصدون المدينة لشراء الخبز. وفي زمن المجاعات كان الفلاحون ينزحون بأعداد غفيرة قطعانا إلى القاهرة، ولم يحدث أبدا أن سكان القاهرة نزحوا إلى الريف، ولهذا كانت أغراض هذه الثورات عامة هي الاستيلاء على قمح الأمراء المحفوظ في الصوامع أو على المراكب ونهب كل ما تطوله أيديهم وإحراق الباقي لإجبار الأمراء على التسليم لهم.. أو الفوضى.

هكذا عاش أجدادنا المصريون في ظل حالة من الظلم والفساد واحتكار الثروة وتوكيل الأمر لغير أهله من المماليك منذ مئات السنين.. أما الآن فالحياة تغيرت كثيرا، ويكفي أننا في العام 2019 وليس 1517