الخميس 2 مايو 2024 مـ 04:35 مـ 23 شوال 1445 هـ
موقع الصفوة
رئيس التحرير محمد رجبالمشرف العام رحاب غزالة

الصهاينة في مصر!.. قصة تأسيس شركة «هرتزل» لاحتلال سيناء

العام هو 1902، وسيصبح سنة سوداء بالمناسبة..

يخطط تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية فى لندن، لوضع أولى بذور الاحتلال الإسرائيلى فى مصر.

ستدور مفاوضات جدية فى العام التالى للاستيلاء على سيناء بالكامل وتحويلها إلى مستوطنة يهودية تجمع شتات يهود العالم.. سيكتب الصهاينة تقريرا مهما جدا لتحويل شبه جزيرة سيناء إلى جنة.. فى هذا التقرير سنقرأ التاريخ الحى لسيناء، من وجهة نظر الصهاينة وإنجلترا، وكيف كان ـ ولايزال ـ ممكنا تحويل الصحارى والجبال إلى مناطق مستصلحة بالكامل، تزرع بالعدس والفول والمحاصيل الحقلية والفواكه والخضروات.

شتات اليهود في أوروبا وروسيا

فى أوائل شهر يونية من هذا العام، يتوجه الرجل المتعصب ـ هرتزل ـ لشعبه إلى لندن، ويعرض هناك على الحكومة البريطانية الدخول فى مفاوضات من أجل الحصول على أرض يتجمع فيها اليهود المضطهدون فى أوروبا الوسطى وروسيا.

وكان هرتزل يعلم أن حكومة المحافظين فى إنجلترا فى مأزق.. فأمامها أفواج ضخمة من اللاجئين اليهود القادمين من بريطانيا، وعليها أن ترضخ لحل من اثنين: إما إيقاف الهجرة، وهو ما يتعارض مع السياسة الليبرالية التى تقوم عليها تقاليد الإمبراطورية البريطانية، وإما مساندة هرتزل فى مساعيه.

اقترح الرجل فى أول الأمر التنازل عن جزيرة قبرص لليهود، لكنه فشل، ثم اقترح أحد اللوردات الإنجليز ـ واسمه ريتشايلد من رجال الحكم هناك ـ أن يأخذ اليهود مستعمرة «أوغندا» وطنا لهم، فاعترض هرتزل، وكتب على ورقة صغيرة العبارة التى سيكون لها فى المستقبل أثر استعمارى بالغ العتمة والسواد على مصر وفلسطين.. كتب الرجل: «شبه جزيرة سيناء ـ فلسطين المصرية ـ قبرص».. فوافقت إنجلترا، بعد وساطة أحد الصحفيين الإنجليز اليهود واسمه «جاكوب جرينبرج».

وكان الصحفى على اتصال بوزير المستعمرات البريطانى جوزيف تشمبرلن المشهور بنزعته الاستعمارية..

ونجح «جاكوب» فى ترتيب لقاء بين تشمبرلن وهرتزل، حيث قال الأخير فى الاجتماع: «إذا استطاعت شركة يهودية وضع أقدامها فى سيناء والعريش فلاشك أن القبارصة أنفسهم سيبهرهم الذهب السائل الذى سيتدفق على المنطقة، وقد يغادر المسيحيون إلى كريت واليونان، والمسلمون إلى تركيا، ويكونون سعداء إذا ما باعوا أراضيهم بأسعار سخية».

وما يدلنا على أن هرتزل كان يخطط من قبل هذا التاريخ للحصول على سيناء كملاذ ووطن لليهود، هو المحادثات التى جرت عام 1898 مع بعض أركان الحكومة الإنجليزية على منح امتيار باستعمار شبه جزيرة سيناء، وجرت وقتها مفاوضات مع اللورد كرومر والحكومة المصرية فى مصر، وحدث فيما بعد أن أرسلت بعثة مؤلفة من الفريقين سنة 1903 للكشف على الأراضى السيناوية.

ومالت الحكومة المصرية آنذاك لإعطاء امتياز بأراضى العريش، لولا أنها رأت أن قلة المياه فى تلك البلاد تضطرها إلى تخصيص قسم من مياه النيل لرى تلك الأراضى، ما جعلها تتكاسل عن القيام بهذا الأمر، بحسب ما أفادنا به الكاتب نجيب نصار فى كتابه «الصهيونية.. ملخص تاريخها، غايتها وامتدادها حتى سنة 1905».

الصهاينة في قلب المحروسة

الآن نقف أمام السؤال الجوهرى، الخاص ببعثة الصهاينة فى مصر، والسبب الرئيسى الذى جعلهم يحلمون بالاستيلاء على شبه جزيرة سيناء.

وصلت بعثة فنية من الصهاينة فى آخر يناير عام 1903، وتكونت من مهندس مناجم وأركان حرب الجيش البريطانى، وملقب بالكولونيل البيرت جولدسميث، وجورج ستيفنس، وهو مهندس سبق له القيام بأعمال هندسية فى مصر، وبروفيسور يدعى «سوسكين»، وهو مهندس زراعى ومدير مزارع فى فلسطين، وهيلل يوف، رئيس أطباء المستشفى اليهودى بحيفا، وأوسكار ماموريك، وهو مهندس معمارى بجامعة فيينا وخريج مدرسة الفنون الجميلة فى باريس.

استقرت البعثة فى مصر أسبوعا تقريبا، ثم توجهت إلى شبه جزيرة سيناء، ومكثت هناك نحو الشهر، وفى يوم 26 مارس من السنة نفسها انتهت من إعداد تقريرها، بعد أن كتبته فى مدينة الإسماعيلية.

المؤرخ إبراهيم أمين غالى، صاحب كتاب «سيناء عبر العصور»، يدلنا على تفاصيل تقرير البعثة، فيقول إن هرتزل قسّم سيناء إلى 5 مناطق، هى وادى الفرما والمنطقة الرملية الواقعة جنوب بحيرة البردويل بين وادى الفرما والعريش، ثم وادى العريش وصحراء التيه «وسط سيناء»، ثم جبال التيه ومناطق مساقط المياه، وأخيرا الجبال والأودية الواقعة بين المنطقة السابقة والسويس «تضم راس سدر وأبورديس».

مبدئيا، قلل التقرير بشدة من أعداد السكان والقبائل المتواجدة فى المناطق الخمس، حتى يسهل التفاوض مع مصر فيما بعد على استغلال الأراضى فى استيطان المنطقة «المفرغة من السكان». قدر التقرير عدد السكان بنحو 16 ألف نسمة، وقال إن قلة عدد الرجال فى المنطقة يعود إلى قلة الأمطار، ما يضطرهم إلى التوغل فى فلسطين بحثا عن الأرض الخضراء والغذاء لهم ولأسرهم.

لكن المؤرخ نعوم شقير، صاحب كتاب «تاريخ سيناء»، ذكر فى تعداد المنطقة أن بلاد الطور وحدها تضم 10 آلاف و980 من أهالى قبائل العليقات ومزينة والعوادة والقرارشة وأولاد سعيد والجبالية، وتضم بلاد التيه 12 ألفا و900 نسمة من السواركة والرميلات وعربان برقطية، ونحو 8 آلاف نسمة من سكان الحضر فى المدن، وبخاصة العريش.

الآن نعود لتقرير بعثة هرتزل، حيث ذكر أن الثروة الحيوانية فى تلك المناطق قليلة جدا، وكذلك الحال بالنسبة للزراعات، فهى قليلة لا تكاد تذكر، ولو تمكن أهل سيناء من الوصول لمصادر المياه لزرعوا الشمام والقمح والذرة والشعير.

وبالنسبة للتربة، قال التقرير إن المنطقة رقم 1 مغطاة بطبقة من الأملاح يمكن إزالتها بغسل التربة قبل استصلاحها، والمنطقة رقم 2 رملية ولا تصلح للزراعة إلا فى المنطقة الواقعة جنوب بحيرة البردويل والعريش، والمنطقة رقم 3 فقيرة، لكنها تتمتع بمناخ جيد، ومن الممكن زراعتها بمحاصيل مجزية.

نصل الآن لأهم جزء فى تقرير البعثة، وهو ذكره لطرق توفير المياه فى المنطقة، حيث قال التقرير إن «المنطقة فى ظروفها الحالية غير صالحة لاستيطان الأوروبيين، إلا أن فى استطاعة أعضاء البعثة أن يقرروا من تجاربهم أن الزراعة ممكنة فى المناطق التى يتوافر فيها المياه».

توصيل النيل لسيناء

اقترح التقرير بالنسبة للمنطقة الأولى إزالة الطبقة المالحة بإيصال مياه النيل وتمريرها من تحت قناة السويس بسحارات، وهى المنطقة التى تبدأ من مدينة القنطرة الآن، باتجاه العريش مرورا بمحمية وادى الزرانيق.

بعد نحو 90 عاما من حلم الصهاينة، حققت مصر مشروع ترعة السلام، بشق مسار لمياه النيل إلى شبه جزيرة سيناء، وكان المخطط له أن يفى المشروع باستصلاح وزراعة 620 ألف فدان تقريبا، عن طريق مياه النيل بعد خلطها بنسبة 2 إلى 1 بمياه الصرف الزراعى.

المشروع الآن قيد التعطل والشلل، وأصبحت المشاكل تحاصره من كل جانب، ولم يفلح القائمون عليه فى استصلاح وزراعة أكثر من 30 ألف فدان، وأصبح معلقا بين السماء والأرض، وصارت أراضى المشروع نهبا لتجار الأراضى من البدو وأبناء الوادى والدلتا والسماسرة، حيث تخضع مساحات كبيرة من المشروع للتعديات، مع توقف شبه كامل من وزارات الزراعة والرى والداخلية لإزالة التعديات، أو البدء فى طرح أراضى المشروع على أهالى سيناء.

تقرير هرتزل أفاد أيضا بالاستفادة من المنطقة الثانية بإنشاء الآبار فيها، والمنطقة الثالثة باستغلال المياه الجوفية بالإضافة إلى بناء الخزانات التى تحفظ مياه الأمطار المنحدرة من الجبال قبل أن تصب فى البحر المتوسط.

إنشاء صناعات زراعية

اقترح التقرير استغلال سيناء بزراعة القمح والذرة والشعير والبقول كالعدس والفول والفاصوليا، والفواكه كالبلح والتين والبرتقال والليمون والزيتون والخروب وخضروات الحقل وبعض الأشجار الخشبية كالكافور والجزورينا.

كما يمكن إنشاء بعض الصناعات الزراعية كالزيتون وسكر القصب والفواكه المجففة والنبيذ والكحول المستخرجة من النشويات.

ووضع التقرير الحدود والمناطق الملائمة التى يجب على الحكومة المصرية التنازل عنها لصالح «اليهود المضطهدين»، وهى البحر المتوسط شمالا، ومساقط مياه وادى العريش ومنطقة التيه جنوبا، وقناة السويس وخليجها غربا.

وذكر التقرير أن هذه المناطق ستكون ملائمة بعد اتخاذ الإجراءات لتنفيذ مشروع تحويل مجرى مياه النيل إلى وادى الفرما وإنشاء الترع والمصارف الملائمة، ولتحقيق ذلك يرى التقرير ضرورة الحصول من الحكومة المصرية على السلطة التى تمكن الشركة المنفذة من العمل ومد المرافق العامة إليها.

ويأتى دور الفلاحين فى هذا الشق من ختام التقرير، حيث طلب أن يبدأ أعمال الحفر الفلاحون المصريون، لأنهم أكثر تأقلما على المناخ.

ويبدو أن واضعى التقرير كانت تلتمع فى أعينهم قناة السويس وتاريخ إنشائها القائم على سخرة الفلاحين، ورأوا أن يعيد التاريخ نفسه بجلب الفلاحين مجددا لحفر القناة الجديدة.

وكان يقضى مشروع الاتفاق مع الحكومة المصرية، بأن تمنح الحكومة المصرية هرتزل أو الشركة التى سيؤسسها «حق احتلال الأرض الكائنة شرق قناة السويس واستعمارها».

هذه هى مطامع الحركة الصهيونية العالمية فى بداياتها فى ذلك التوقيت، لكن كيف كان الرد المصرى عليها؟.

بطرس غالي «يتلاءم» على هرتزل

تدلنا المكاتبات التى جرت فيما بعد بين الصهاينة ومصر، أن الحكومة المصرية التى كانت تخضع للاستعمار الإنجليزى وقتها، اتخذت موقفا وطنيا يثير الدهشة.

بطرس باشا غالى، رئيس الوزراء المصرى، سبق أن وافق من قبل على تمديد عقد امتياز قناة السويس من 1968 إلى 2008، نظير 4 ملايين جنيه تدفع على أربعة أقساط، وهو نفسه الذى بعث بخطاب مهم لهرتزل، اتخذ فيه من كل نقاط الضعف التى حاول التقرير الصهيونى إبرازها للتقليل من شأن الأراضى السيناوية، ذريعة لعدم الموافقة على المشروع.

قال بطرس غالى فى الخطاب الذى حمل توقيعه: جاء فى التقرير أن المنطقة على حالتها الراهنة غير صالحة لاستعمار أوروبى، وأن أكثر المناطق ملاءمة للغرض هى وادى الفرما إذا ما وصلت إليه مياه النيل عن طريق سحارات ممتدة من تحت قناة السويس، وقد تلقت الحكومة المصرية رأى مصلحة الرى، وإنى أرفق مع هذا صورة منه، يتبين لكم من قراءته أن النتيجة التى وصل إليها هى أن العروض التى تقدمتم بها غير مقبولة إطلاقا للأسباب التى فصلها (تقرير مصلحة الرى).

ولذا فلا يسع الحكومة المصرية إلا أن تؤيد هذا الرأى، أما بخصوص المناطق الأخرى المعروض إصلاحها فقد ذكر التقرير نفسه أن إنشاء المرافق العامة بها لا يبدو أمرا غير عملى فقط، بل مستحيل، ولذا تكون الحكومة المصرية مخطئة إذا ما أظهرت أى تشجيع على مشروع من هذا القبيل.

واختتم بطرس باشا غالى الخطاب بقوله: «لتلك الأسباب آسف لعدم استطاعة الحكومة المصرية الرد بالإيجاب على اقتراحاتهم التى تعتبر مرفوضة بصفة قاطعة ونهائية».

تلقف المعتمد البريطانى اللورد كرومر «أمضى عشرين عاما فى مصر» هذا الخطاب من رئيس الحكومة المصرية، وبعث بدوره خطابا إلى وزير الخارجية البريطانية أكد فيه أن المعارضة المصرية، التى تكن شعورا معاديا لليهود لن تسمح بالمشروع، فضلا عن أن الحكومة المصرية ترى أن المشروع الاستعمارى سيفشل، وهى لا تود أن تشترك فى مشروع فاشل.

لم يهدأ بال هرتزل، صاحب أكبر مشروع استعمارى يهودى فى تاريخ البشرية، ولم يقتنع بما قالته الحكومة المصرية واللورد كرومر نفسه، ظل على مدار العام يبعث بمخاطبات مع الحكومة البريطانية، وكان الرد الأخير عليه فى هذا العام بخطاب من وكيل وزارة الخارجية البريطانية قال فيه: «يؤسف لورد لاندنسداون (وزير الخارجية البريطانى) لعدم استطاعته التوصية بالضغط أكثر من ذلك على الحكومة المصرية لحملها على تغيير موقفها فى هذا الخصوص».

انتهت المفاوضات الثلاثية بين مصر وبريطانيا والصهاينة إلى هذا الحد تقريبا.

لكن يظهر التاريخ أن أطماع الصهاينة استمرت حتى احتلال مصر فى عام 1967.. فكانت النكسة، التى انتهت باستيلاء إسرائيل على قطاع غزة والضفة الغربية وسيناء بالكامل وهضبة الجولان.