وهم الاستثمار الزراعي.. حين تتحول الأرض إلى فخ وأحلام الأرباح إلى سراب!

في زمن تتآكل فيه قيمة الجنيه يومًا بعد يوم، ويتراجع الأمان الاقتصادي أمام موجات التضخم وغلاء المعيشة، بات المواطن البسيط يبحث عن ملاذ آمن، يحمي مدخراته ويمنحه فرصة لمستقبل أفضل. وبينما تغيب البدائل الرسمية، تنبثق مشاريع تُقدَّم على أنها “فرص العمر”، لكنها سرعان ما تنكشف كأفخاخ محكمة النصب.
أ.. مشروع تحت المجهر
ظهرت شركة “أ” قبل نحو عامين كإحدى شركات الاستثمار الزراعي، مدعيةً امتلاك مساحات من الأراضي الزراعية الجاهزة للاستثمار، في مناطق مختلفة أبرزها وادي النطرون، الواحات، والفرافرة. العروض التي قُدمت للمواطنين كانت مغرية:
• استثمار يبدأ من 100 ألف جنيه
• أرباح شهرية ثابتة تبدأ من 3000 جنيه
• زراعات متنوعة (نخيل – كنتالوب – طماطم – ليمون)
• عقود مدتها 3 سنوات قابلة للتجديد
وقدّمت الشركة نفسها على أنها مرخصة من الهيئة العامة للاستثمار، وهو ما تبين لاحقًا أنه غير دقيق، بل إن الشركة تعمل بتراخيص تجارية فقط، دون غطاء قانوني يسمح بجمع الأموال أو إدارة محافظ استثمارية.
ضحايا كُثر.. وخسائر بالملايين
وفقًا لشكاوى تم تقديمها إلى الجهات الرقابية، تجاوز عدد الضحايا 700 مواطن، بخسائر تقديرية تُقدّر بأكثر من 150 مليون جنيه. وقد وثّق عدد من المتضررين بلاغات رسمية ضد القائم على المشروع (ع.ز) وعدد من شركائه، يتهمونهم بالنصب وتوظيف الأموال دون ترخيص.
أحد الضحايا، ويدعى (أ.س) من الجيزة، قال:
“وقّعت العقد وأنا مطمئن بسبب الفيديوهات اللي بيعملوها، والمزارع اللي بيصوروها، وبعد 3 شهور من التأخير في الأرباح، بدأوا يطلبوا مني أدفع تاني بحجة مصاريف الصيانة. لحد ما اختفوا تمامًا!”
تحليل قانوني: توظيف أموال مُقنّع
بحسب خبراء قانونيين، فإن ما قامت به “أف” يُصنّف تحت بند “توظيف الأموال دون ترخيص” وفقًا للقانون رقم 146 لسنة 1988، والذي ينص على أنه لا يجوز لأي جهة غير خاضعة لرقابة البنك المركزي أن تتلقى أموالاً من الجمهور لاستثمارها، ولو كان ذلك في صورة نشاط زراعي أو تجاري.
ويواجه مرتكبو هذا النوع من الجرائم عقوبات تصل إلى السجن من 3 إلى 10 سنوات، وغرامات مالية تُضاعف حسب حجم الأموال التي تم جمعها.
الشق الاقتصادي: زراعة بلا إنتاج
من الناحية الاقتصادية، يشير خبراء إلى أن العوائد الشهرية التي وعدت بها الشركة غير منطقية، لأن معظم الزراعات الموسمية (كالكنتالوب والطماطم) لا تدر عائدًا شهريًا ثابتًا، بل تتطلب مواسم كاملة للزراعة والحصاد، وتحكمها عوامل مثل الطقس، وجودة التربة، وتكلفة النقل والتسويق.
وبالتالي، فإن الوعد بعائد شهري ثابت يعد خدعة تسويقية لا تستند إلى دراسة جدوى حقيقية.
نماذج مشابهة.. والسيناريو يعيد نفسه
• شركة “ال. خ”: تورطت في مشروع زراعي وهمي بمحافظة المنيا، وجمعت نحو 80 مليون جنيه من الأهالي.
• مشروع “و. ل”: روّج لامتلاك مزارع تمور في الوادي الجديد، واكتُشف لاحقًا أن الأرض محل النزاع ليست مملوكة له.
• كيان “س. ل. ال”: سوق أراضي زراعية بنظام المشاركة في الإنتاج، لكنه عمل دون أي تراخيص استثمارية.
مطالبات عاجلة: تفعيل الرقابة والتوعية
يطالب المتضررون الدولة بالتحقيق العاجل في نشاط شركة “أ”، وتجميد أصولها، وملاحقة القائمين عليها. كما تدعو مؤسسات المجتمع المدني إلى توعية المواطنين بمخاطر الاستثمار في مشروعات غير مرخصة، ووضع قائمة سوداء بالشركات الوهمية المتورطة في أعمال نصب واحتيال.
الختام: لا أرباح بلا أساس.. ولا أرض بلا وثيقة
إن تجربة “أ” وغيرها من الشركات المشابهة تفضح هشاشة ثقافة الاستثمار لدى المواطنين، وتُبرز الحاجة الماسة إلى تدخل تشريعي أقوى، ورقابة صارمة. فالأرض ليست مجرد سلعة، بل مسؤولية.. والاستثمار ليس لعبة، بل علم ومخاطرة محسوبة. وبين الطمع والجهل، يسقط الضحايا واحدًا تلو الآخر.