الصفوة
موقع الصفوة

أندي هادينتو يكتب: مناقشة النظرة الثنائية إلى العلماء.. حين تحتاج علوم الدين والعلوم العلمية إلى التصالح

أندي هادينتو
-

يُستخدم مصطلح العلماء كثيرًا في المجتمعات الإسلامية، وغالبًا ما يُقصد به أساتذة ومعلمو المواد الدينية الذين يجيدون قراءة كتب التراث الدينية ويتقنون اللغة العربية ويقودون الدعاء في المناسبات الدينية. وقد تشكّلت هذه الصورة التاريخية من دور المدارس الدينية (المدارس الإسلامية التقليدية) التي احتضنت علوم الشريعة والتفسير والفقه على مدى قرون. ومع مرور الوقت، أصبح مفهوم العالم مرتبطًا حصريًا بالتخصص في علوم الدين، حتى كاد الناس يظنون أن المعرفة الحقيقية لا تكون إلا فيما يتصل بالعبادات والعقيدة. غير أن هذا الفهم الضيق يغفل حقيقة أن القرآن الكريم جعل العلم طريقًا لفهم الكون والحياة، لا مجرد وسيلة لحفظ النصوص.

بدأ القرآن الكريم مسيرة المعرفة الإنسانية بكلمةٍ جامعة: اقرأ (العلق: 1–5). وهي ليست مجرد أمرٍ بالقراءة اللفظية، بل دعوةٌ لاكتشاف المعنى والتأمل في الآيات الكونية التي تحيط بالإنسان. فالإيمان في الرؤية القرآنية ليس ضد التفكير، بل يتعزّز به. ولهذا تكررت في آياتٍ كثيرة دعواتٌ إلى النظر والتدبّر: أفلا يتدبّرون القرآن (محمد: 24)، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض (آل عمران: 191)، وأفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت (الغاشية: 17). هذه الدعوات تجعل التفكر والبحث جزءًا من العبادة، وتُحوّل العقل إلى وسيلة للتقرب إلى الله لا للجدال فقط. ومن هنا يتبيّن أن العالم في المفهوم القرآني هو من يقرأ النص كما يقرأ الحياة، ويبحث عن الله في قوانين الكون كما في آيات المصحف.

وفي محاولةٍ لفهم آليات التفكير الإسلامي، قدّم المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1986) تحليلًا دقيقًا لثلاثة أنماطٍ من المعرفة في التراث الإسلامي: البياني، والبرهاني، والعرفاني. فالبياني يقوم على النص والتفسير، والبرهاني يقوم على العقل والتجربة، والعرفاني يقوم على الحدس والبصيرة. هذه الأنماط الثلاثة لا تتعارض بل تتكامل لتشكّل الوعي الإسلامي المتوازن. لكنّ هيمنة أحدها دون الآخر تسبّبت في أزماتٍ فكرية عبر التاريخ. فعندما غلب البيان جمد الفكر، وعندما استقل البرهان فُصل الدين عن العلم، وعندما انفرد العرفان ابتعد الناس عن الواقع. والقرآن يريد توازناً بين الثلاثة، ليبقى العقل منفتحًا والروح حيّة والنص حاضرًا في الوجدان.

وتتجلى هذه الفلسفة المعرفية في المنهج القرآني للتربية الذي يقوم على ثلاث كلماتٍ جامعة: تلاوة الآيات، وتعليم الكتاب، وتزكية النفس (الجمعة: 2). فالتلاوة هي قراءة العلامات الكونية والبحث في السنن التي تسير بها الحياة، والتعليم هو فهم النصوص والتراث بروح الحكمة والتجديد، أما التزكية فهي إصلاح الباطن وصون الضمير ليبقى العلم مرتبطًا بالقيم. يقول سيد حسين ناصر (1994) إن المعرفة في الإسلام لا تكتمل إلا إذا تحوّلت إلى وعيٍ بالقيمة ووسيلةٍ للتقرب إلى الله. فالعالم في هذا السياق لا يكتفي بالمعرفة بل يسعى ليجعلها رسالة أخلاقية.

ومن هذا المنظور، لا يمكن حصر العلماء في مؤسسات التعليم الديني فقط، لأنّ القرآن نفسه يربط العلم بالخشية: إنما يخشى الله من عباده العلماء (فاطر: 28). والخشية هنا ليست خوفًا جسديًا بل إدراكٌ عميق لعظمة الخالق من خلال فهم قوانين الكون. وكلّما ازداد الإنسان علمًا ازداد وعيه بمحدودية ذاته. وهذه العلاقة بين العلم والتواضع هي ما يميز العالم الحقيقي عن المتعالم. ولهذا يرى الشريف العطّاس (1993) أن هدف التعليم في الإسلام هو تحقيق الإنسان العارف بالله والعالم بالكون في آنٍ واحد.

ومع ذلك، فإن الواقع التعليمي في عالمنا الإسلامي لا يعكس هذا التوازن. فالمعاهد الدينية ما زالت تركّز على الجانب البياني، والمدارس الحديثة تنحاز إلى البرهاني، أما البعد العرفاني فقد تراجع حتى كاد يختفي من المناهج. وهكذا ظهرت فجوة بين العقل والروح، بين المدرسة والواقع، وبين الدين والعلم. نحن نُخرّج أجيالًا من المختصين، لكنّنا نُنتج قليلًا من الحكماء. والنتيجة أن المعرفة تُستهلك ولا تُنتج، وتُتداول بلا أثرٍ في القيم أو السلوك. وهذه ليست مشكلة المناهج فحسب، بل مشكلة رؤيةٍ حضارية فقدت قدرتها على الجمع بين الإيمان والعقل كما كان في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.

إنّ الفصل بين علوم الدين والعلوم العلمية لم يكن جزءًا من الفهم القرآني للعلم، بل ثمرة التحولات الفكرية الحديثة التي فصلت بين القيم والبحث، وبين المعنى والتقنية. فالقرآن الكريم يقول: ولا تنس نصيبك من الدنيا (القصص: 77)، وهو تأكيد على أنّ العلم والعمل جزء من العبادة، وأنّ الإيمان لا ينفصل عن الحياة. فكل معرفةٍ تُسهم في بناء الإنسان وإعمار الأرض هي عبادة إذا صاحبتها النية الصادقة. ومن هنا تتبدد الفوارق المصطنعة بين الفيزياء والشريعة، بين المختبر والمحراب، لأنّ كليهما طريقٌ إلى معرفة الله من زاويةٍ مختلفة.

وهكذا، يتضح أن مفهوم العالم في القرآن ليس لقبًا أكاديميًا ولا وظيفةً دينية، بل رحلة مستمرة من التعلم والتأمل والتزكية. العالم الحق هو من يحفظ التراث بالبيان، ويبحث بالعقل بالبرهان، ويعمّق إنسانيته بالعرفان. فإذا اجتمعت هذه الأبعاد الثلاثة في شخصٍ واحد، صار العلم عنده رؤيةً للحياة ومنهجًا للفكر ومصدرًا للرحمة. وعندها فقط يتحقق التصالح المنشود بين علوم الدين والعلوم العلمية، فيصبح العالم شاهدًا على وحدة الحقيقة بين الوحي والعقل والإنسان.


---

قائمة المراجع

القرآن الكريم.

الجابري، محمد عابد. (1986). تكوين العقل العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

العطّاس، السيد محمد نقيب. (1993). الإسلام والعلمانية. كوالالمبور: المعهد الدولي للفكر والحضارة الإسلامية.

ناصر، سيد حسين. (1994). العلم والحضارة في الإسلام. بيروت: دار المدار الإسلامي.

الفاروقي، إسماعيل راجي. (1982). توحيد المعرفة. واشنطن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

أندي هادينتو – أستاذ التربية الإسلامية في جامعة جاكرتا الحكومية، ورئيس رابطة أساتذة التربية الإسلامية في إندونيسيا (ADPISI).