أمة الرحمن ناصر المطري تكتب: الـ14 من أكتوبر المجيد.. ذاكرة التحرير وبوصلة النصر القادم

في تاريخ الأمم لحظات فارقة لا يطويها النسيان، لأنها تُكتب بالدم والتضحية والإيمان، ومن تلك اللحظات الخالدة في وجدان الشعب اليمني، يسطع الرابع عشر من أكتوبر 1963م كفجرٍ وطنيٍ مشرق، أضاء دروب الحرية وأعلن ميلاد عهدٍ جديد من الكرامة والسيادة. إنه اليوم الذي هبّت فيه جبال ردفان الشامخة تصدح بصوت الشعب الثائر، معلنةً أن اليمن قد قرر أن يتحرر من براثن الاستعمار البريطاني، الذي جثم على أرض الجنوب أكثر من مئة وثمانية وعشرين عامًا.
شرارة الثورة وبداية الطريق نحو الاستقلال
حين اشتعلت شرارة الكفاح المسلح من ردفان، لم تكن الثورة وليدة لحظة غضب عابرة، بل كانت ثمرة تراكم طويل من الوعي الوطني، والتجارب السياسية والنقابية، والنضال السلمي الذي سبقها بسنوات. فقد حاول البريطانيون أن يزرعوا الانقسام بين أبناء الجنوب، وأن يشغلوا القبائل عن بعضها، وأن يصنعوا “حكومات محلية” موالية لهم لتُكرّس الضعف والهيمنة. لكن إرادة الشعب كانت أقوى من خططهم، وعقيدة الحرية أرسخ من مؤامراتهم.
قاد الأبطال الأحرار — وعلى رأسهم المناضل راجح بن غالب لبوزة — الثورة من ردفان إلى لحج، ثم إلى عدن، وانتقلت شعلة المقاومة من جبلٍ إلى جبل، ومن قريةٍ إلى مدينة، حتى أصبحت الأرض كلها ميدانًا واحدًا للنضال. ومع تصاعد العمليات الفدائية ضد الوجود البريطاني، ومع تلاحم الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل مع مختلف القوى الوطنية، بدأت ملامح النصر تقترب شيئًا فشيئًا، حتى تحقق في الثلاثين من نوفمبر 1967م، يوم رحل آخر جندي بريطاني، وارتفعت راية الجمهورية خفاقة في سماء عدن.
ذلك اليوم لم يكن مجرد نهاية لحقبة استعمارية، بل كان ميلادًا لروح يمنية جديدة، روحٍ تعرف أن الحرية لا تُمنح من أحد، بل تُنتزع انتزاعًا من فم المستحيل، وأن الكرامة لا تُشترى بذهب الدنيا، بل تُصان بالدم والعرق والعزيمة.
من التحرير إلى معركة الكرامة المعاصرة
واليوم، ونحن نُحيي الذكرى الثانية والستين لثورة الرابع عشر من أكتوبر، نجد أنفسنا أمام واقعٍ لا يختلف في جوهره عن ذلك الماضي البعيد. فالعدو قد تغيّر شكله، لكن هدفه واحد: إخضاع اليمن وإذلال إنسانه.
فما يمارسه الحوثيون اليوم من قمعٍ وتسلطٍ واستبدادٍ في مناطق سيطرتهم، وما يرتكبونه من جرائم ضد المدنيين، يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ أساليب المستعمرين القدامى الذين حاولوا السيطرة على الأرض والعقول معًا. الحوثي جاء بمشروعٍ غريبٍ على اليمنيين، يستهدف قيمهم وهويتهم ووحدتهم، ويحوّل الدين إلى أداة للهيمنة والسيطرة.
إنّ ما يحدث في صنعاء، وصعدة، وإب، والحديدة، وذمار، وحجة، وغيرها من المحافظات الواقعة تحت سيطرة الميليشيا، ليس سوى وجهٍ جديدٍ للاستعمار — لكنه استعمار من الداخل — يتغذّى من جهل الناس وفقرهم، ويُمعن في تكميم الأفواه، وتدمير التعليم، وطمس هوية اليمن الجامعة.
ومع ذلك، كما انتصر أجدادنا في أكتوبر، نحن اليوم قادرون على الانتصار على الحوثي، لأن الإيمان بالحرية لا يموت، ولأن جذوة أكتوبر لم تنطفئ بعد.
دروس أكتوبر للأجيال
لقد علّمتنا ثورة الرابع عشر من أكتوبر أن الوطن لا ينهض بالشعارات، بل بالفعل والإرادة والتضحيات. علّمتنا أن البندقية بلا وعيٍ لا تصنع وطنًا، وأن الكلمة الواعية قادرة على إشعال ثورة أعظم من الرصاص.
علّمتنا أيضًا أن الوحدة الوطنية هي السلاح الأقوى في وجه أي عدو، داخليًّا كان أم خارجيًّا. فحين توحّد اليمنيون خلف راية التحرير، انتصروا. واليوم، لا سبيل للخلاص من الحوثي إلا بوحدة الصف الوطني، بعيدًا عن الأجندات الضيقة، وبإعلاء مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
معركة الوعي هي معركة النصر
إن مواجهة الحوثي لا تكون بالسلاح وحده، بل بالوعي. فالميليشيا تسعى إلى تغييب العقول قبل أن تكمّم الأفواه، وإلى تحويل الإنسان من مواطنٍ فاعلٍ إلى تابعٍ صامتٍ خاضعٍ للخرافة والتسلط.
لهذا، فإن الوعي هو خط الدفاع الأول عن الجمهورية والكرامة، والتعليم هو سلاح المستقبل الذي يُسقط كل فكرٍ ظلاميٍّ متخلّف.
يجب أن نستعيد خطابنا الوطني، وأن نزرع في نفوس أبنائنا حب اليمن الحقيقي — لا اليمن الطائفي ولا المذهبي — اليمن الذي يتسع للجميع، يمن العدالة والمساواة، يمن المواطنة والقانون.
أكتوبر روحٌ لا تموت
كلما مرّ الرابع عشر من أكتوبر، استيقظت فينا تلك الروح العظيمة التي لا تعرف الهزيمة. نستشعر عظمة الرجال الذين وقفوا بوجه إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وانتصروا لأنهم امتلكوا الإيمان بالحق والإصرار على الحياة.
واليوم، نواجه نحن إمبراطورية أخرى، لكنها تتخفّى بعباءة الدين والشعارات الزائفة، وتقتل باسم الله ما حرّم الله. ورغم قسوة الواقع، فإن روح أكتوبر تنادينا: اثبتوا كما ثبت آباؤكم، فالنصر قريب لمن يصبر ويؤمن بعدالة قضيته.
إننا قادرون على الانتصار على الحوثي، لا لأننا نملك السلاح، بل لأننا نملك الحق، والحق لا يُهزم. قادرون لأننا أصحاب قضية عادلة، ولأننا أبناء وطنٍ صنع الحرية من رحم الألم.
سننتصر حين نتوحد، حين نرفع راية الوطن فوق كل راية، وحين ندرك أن بناء المستقبل لا يكون إلا بتجاوز الأحقاد، وتغليب المصلحة العامة على النزاعات الصغيرة
في الرابع عشر من أكتوبر، نتذكر أن الاستقلال لم يكن نهاية الطريق، بل بدايته. واليوم، ونحن نعيش مرحلة من التحديات والتمزق، علينا أن نعيد اكتشاف معنى أكتوبر من جديد:
أن نثور على الجهل كما ثار أجدادنا على الاستعمار،
أن نقاوم الكراهية كما قاوموا القهر،
أن نؤمن بأن اليمن لا يُكسر، لأن في كل شبرٍ منه دماءً زكيةً سالت من أجل الحرية.
سلامٌ على ردفان، وسلامٌ على عدن، وسلامٌ على كل جبلٍ ووادٍ احتضن الثورة يوماً.
سلامٌ على الشهداء، وعلى الأمهات اللاتي ودّعن أبناءهن بأمل النصر.
وسلامٌ على اليمن القادم، يمن الحرية والعدالة، يمن لا مكان فيه لظلمٍ أو ميليشيا.
المجد لثورة 14 أكتوبر المجيدة،
والنصر لليمن وأبنائه الأحرار،
فكما انتصرنا على الاستعمار بالأمس، سننتصر على الحوثي اليوم.