الصفوة
موقع الصفوة

أحمد سيف اليزل: المدرسة الترامبية من الشعبوية إلى التجارة العلنية

أحمد سيف اليزل
-

تفكيك المدرسة الترامبية: من لا يدفع... لا يمر

أحب أن أبدأ حديثي بتوضيح موقف لترامب، حتى تتعرّف على مدى تفكير هذا الرجل. خلال فترة رئاسة بايدن، نظّم ترامب فعاليات لجمع التبرعات بأسعار باهظة؛ حيث وصلت تكلفة التقاط صورة معه إلى 100 ألف دولار، والعشاء الخاص إلى 250 ألف دولار. من هنا، يمكننا القول إننا أمام شخصية لا تلتزم بالبروتوكولات ولا المبادئ، ولا يعنيها سوى الاستعراض (الشو) والمال فقط.
ومع عودة ترامب إلى الرئاسة مرة ثانية في عام 2025، بدأت تتضح ملامح فكره مجددًا، والتي لم تتغير كثيرًا عمّا كانت عليه سابقًا. لكن من المهم الإشارة إلى بُعد سياسي جديد في هذه المرحلة؛ حيث سعى ترامب إلى اختبار جاهزية الدول، أو بمعنى أدق: مدى استجابتها للسياسات الأمريكية بعد عصر بايدن.
عاد ترامب إلى السلطة بدعم واضح من شخصيات صهيونية موّلت حملته الانتخابية، وبتاريخه المعروف في عقد الصفقات، كان ولاؤه الأول لإسرائيل واضحًا تمامًا. استخدم هذه الورقة كأداة ضغط قوية على دول عديدة في المنطقة، كما حدث مع الأردن حين استُقبل الملك عبد الله الثاني ببرود واضح في البيت الأبيض، للضغط عليه بشأن ملف التهجير، وأيضًا مع مصر بخصوص ملف الحدود والأمن الإقليمي. وقد رفضت مصر هذا الضغط شكلًا وموضوعًا، وتم تأجيل زيارة الرئيس السيسي لأمريكا لتهنئة ترامب إلى أجل غير مسمّى.
ثم جاءت تصريحاته بشأن المهاجرين والمساجين، والتي دفعت بدولة مثل الإكوادور إلى الرضوخ، بعد فترة من الرفض والاحتجاج. كما فرض تعريفات جمركية وضرائب على عدة دول، استجابت بعضها فورًا، بينما التزمت أخرى الصمت، وأعلنت دول مثل المكسيك رفضها التام.
هنا يتضح أن ترامب استخدم تصريحاته كأداة لقياس مدى استعداد الدول لطاعته، أو كما نقول بلغة الشارع: "لما الفتوة الجديد ينزل الحارة، وبيجرب يشوف مين هيمشي على مزاجه، ومين هيتقاله زود الإتاوة."
بهذا الشكل تتجلّى ملامح ما يمكن تسميته بـ"المدرسة الترامبية الجديدة"، التي تتسم بالشعبوية والقومية في الخطابات، والتصريحات المتمركزة حول مبدأ "مصلحة أمريكا أولًا"، مع الإصرار على أننا نعيش "العصر الذهبي الأمريكي". لكن الجديد في هذه المدرسة هو تحوّل السياسة إلى تجارة علنية، حتى أنني أعتقد – وبكل يقين – أنه لو امتلك الفلسطينيون أموالًا طائلة، لكان ترامب أعلن اعترافه بالدولة الفلسطينية، وأكد أن القدس عاصمة فلسطين.
هل انتهى عصر المبادئ في السياسة الدولية؟
المدرسة الترامبية لم تخلق شيئًا من العدم، بل عبّرت بصراحة فجة عمّا كان يُمارس من وراء الكواليس لعقود. لكن المختلف أن ترامب أخرج السياسة من عباءتها الدبلوماسية، ووضعها على طاولة المزاد العلني. لا مكان للثوابت، فقط المصالح ومن يدفع أكثر.
ثم فعل ما يمكن أن نطلق عليه بوضوح: إرباك الكوكب. فقد افتعل أزمات وتصريحات استفزازية مع الصين حول التجارة وتايوان، ومع إيران بشأن الملف النووي، وأثار نزاعات دبلوماسية مع دول في أمريكا الجنوبية، ومنطقة الشرق الأوسط بالكامل، وحتى مع بعض دول الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا وفرنسا.
ومن ضمن تصريحاته اللافتة، أعلن ترامب أن السعودية ستستثمر 600 مليار دولار في أمريكا ضمن صفقات دفاعية وتكنولوجية كبرى. ولم يعترض الجانب السعودي بل أكد ذلك خلال زيارته الأولى لدول الخليج وأيضا اول زيارة خارجية لصاحب المدرسة الترامبية والتي تنافست فيما بينها لكسب رضا ترامب، حتى أنه أعلن لاحقًا حصوله على ما يقارب ٤ تريليونات دولار من ثلاث دول فقط، السعودية وقطر والامارات مقابل صفقات لم تُكشف تفاصيلها بعد، وضمنها أيضًا رفع العقوبات عن سوريا بوساطة سعودية – تركية.
كما قام بطرد الرئيس الأوكراني زيلينسكي من البيت الأبيض بسبب خلاف حول اتفاقية المعادن النادرة، والتي تحتاجها الصناعات الأمريكية بشدة، مما اضطر زيلينسكي للرضوخ والتوقيع لاحقًا.
واللافت للنظر أن ترامب لم يوجّه أي هجوم أو تصريحات عدائية ضد روسيا أو تركيا، ما يعكس نوعًا من التفاهم غير المعلن، خاصة مع إعلانه صداقة علنية مع بوتين وأردوغان. هذا يُثير تساؤلات عديدة: هل ينفّذ ترامب طلباتهما مجانًا كما تعودنا، أم أن هناك صفقات اقتصادية واستراتيجية سرية؟
في المقابل، لم يلتفت ترامب إلى القارة الإفريقية بشكل واضح، مما أثار تساؤلات حول مدى اهتمامه أو إهماله المتعمّد لها.
تثير هذه السياسات قلقًا بالغًا بشأن مستقبل العلاقات الدولية؛ إذ إن هذا النهج قد يؤدي إلى المزيد من عدم الاستقرار وتقويض التحالفات التقليدية، ليخلق عالمًا تسوده لغة المال والتفاوض التجاري الصارم، على حساب المبادئ الدبلوماسية والأخلاق السياسية.


ومن التصريحات اللافتة أيضًا، ما أعلنه ترامب مؤخرًا بشأن حق الولايات المتحدة في تأمين عبور سفنها التجارية والعسكرية من الممرات المائية الدولية، وتحديدًا قناة بنما وقناة السويس.
وقد صرّح بوضوح أن أمريكا لن تتحمل أي رسوم عبور "لا تخدم مصالحها"، مشيرًا إلى أن "الولايات المتحدة لا تدفع مقابل شيء تسيطر عليه بحكم الواقع الجغرافي والعسكري والاقتصادي"، على حد تعبيره.
وأضاف أن "الدول التي تستفيد من الحماية الأمريكية يجب أن تقدم المقابل، لا أن تطلب رسومًا منا على مرور بضائعنا."
وقد فسّرت هذه التصريحات بأنها تهديد مبطّن لكل من مصر وبنما، وتحمل في طياتها منطق "الاستقواء الاقتصادي"، وهو أحد أبرز أساليب المدرسة الترامبية.
ردود الفعل:
مصر ردّت بشكل حاسم، مؤكدة أن قناة السويس تُدار وفقًا لاتفاقية القسطنطينية لعام 1888، وأن رسوم المرور تُفرض بشكل عادل ومتساوٍ على جميع السفن، بما فيها السفن الأمريكية، دون استثناء.
أما بنما، فرغم تجنّبها التصعيد، أصدرت بيانًا أكدت فيه سيادتها الكاملة على القناة، وأنها لا تخضع لأي ابتزاز من أي طرف، في إشارة غير مباشرة إلى تصريحات ترامب.
هذا التصعيد يعكس أحد أبرز أدوات المدرسة الترامبية: تحويل القواعد الدولية إلى أدوات ضغط اقتصادية، والتعامل مع الشراكات الاستراتيجية بلغة "من لا يدفع... لا يمر".

ترامب والتوسّع الأمريكي... خارج الصندوق
وعلى المستوى الداخلي، أثارت دعوة ترامب المثيرة للجدل بضم كندا كولاية أمريكية جديدة نقاشات واسعة في الأوساط السياسية والاجتماعية، ما يعكس رغبته في التوسع الجغرافي والاقتصادي بصورة غير تقليدية، تكسر القواعد المعروفة في العلاقات الدولية.
الخاتمة: من يملك المال... يملك القرار
يمكن القول إن المدرسة الترامبية لم تعد مجرّد تيار شعبوي؛ بل أصبحت نموذجًا لتحويل السياسة إلى تجارة معلنة. نحن نعيش في عالم لم تعد تحكمه المدارس الفكرية أو المبادئ السياسية، بل تحكمه "لغة الفتوة".
وإذا استمرت الأمور بهذا الشكل، فقد نشهد نهاية عصر المبادئ، وبداية مرحلة تحكمها المزايدة، لا القيم... والمُزايد فيها، هو الأقوى تمويلًا.